فصل: أمين الدولة بن التلميذ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.أبو طاهر بن البرخشي:

هو موفق الدين أبو طاهر أحمد بن محمد بن العباس، يعرف بابن البرخشي، من أهل واسط، فاضل في الصناعة الطبية، كامل في الفنون الأدبية، وقد رأيت من خطه ما يدل على رزانة عقله وغزارة فضله وكان في أيام المسترشد باللّه، حدثني شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن محمد بن الكريم البغدادي قال حدثني أحمد بن بدر الواسطي قال كان الحكيم أبو طاهر أحمد محمد البرخشي بواسط يعالج مريضًا به أحد أنواع الاستسقاء، فطال به المرض ولم ينجع فيه علاج وعبر حد الحمية فسهل له في استعمال مهما طلبته النفس ومالت إليه الطبيعة من المآكل والأغذية، فأطلق المريض يده ثم أكل ما تهيأ له، فلما كان في بعض الأيام اجتاز به إنسان يبيع الجراد المسلوق في الماء والملح، فمالت إليه نفس المريض فطلبه ثم اشترى منه وأكل، فعرض له من ذلك إسهال مفرط، وانقطع الحكيم عنه لما رأى به من الإفراط في الإسهال، ثم أفاق منه بعد أيام، وأخذ المزاج في الصلاح وابتدأ به البرء، وتدرجت حاله إلى كمال الصحة، والحكيم قد أيس من صلاحه، فلما علم الحال أتاه وسأله عما استعمل ومم وجد الخف؟ فقال لا أعرف إلا أنني منذ أكلت الجراد المسلوق شرعت في العافية، ففكر الحكيم في ذلك طويلًا ثم قال ليس هذا من فعل الجراد ولا من خاصته، وسأل المريض عن بائع الجراد فقال لا أعلم بمكانه، ولكني إن رأيته عرفته، فشرع الحكيم في البحث والسؤال عن كل من يبيع الجراد وهو يحضره إلى المريض واحدًا بعد واحد إلى أن عرف صاحبه الذي اشترى منه، فقال له الحكيم أتعرف الموضع الذي صدت منه الجراد الذي أكل منه هذا المريض؟ قال نعم، قال امض بنا إليه، فمضيا جميعًا إلى المكان، وإذا هناك حشيشة يرعاها الجراد، فأخذ الحكيم من تلك الحشيشة، ثم كان يداوي بها من الاستسقاء، وأبرأ بها جماعة من هذا المرض، وذلك معروف مشهور بواسط.
أقول وهذه هي حكاية قديمة قد جرى ذكرها، وإن تلك الحشيشة التي كان الجراد يرعاها هي المازريون، وقد ذكرها أيضًا القاضي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة.
وكان أبو طاهر بن البرخشي حيًّا بواسط في سنة ستين وخمسمائة، وكان عنده أدب بارع، ومعرفة في النظم والنثر، ومن شعره قال في غلام ناول خلالا:
وناولني من كفه مثل خصره ** ومثل محب ذاب في طول هجره

وقال خلالي قلت كل حميدة ** سوى قتل صب حار فيك بأسره

وقال في إنسان سوء حج من بعض قرى واسط:
لما حججت استبشرت واسط ** وقولياثا وفتى مرشد

وانتقل الويل إلى مكة ** وركنها والحجر الأسود

وقال أيضًا:
وقد رأى إنسانًا يكتب كتابًا إلى ** صديق له فكتب في صدره العالم

لما انمحت سنن المكارم والعلى ** وغدا الأنام بوجه جهل قاتم

ورضوا بأسماء ولا معنى لها ** مثل الصديق تكاتبوا بالعالم

وكتب إليه نجم الدين أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم الهرثي الشاعر الواسطي وقد أبل من مرض وألزمه الحمية ومنعه الغذاء:
صبحت فخرًا بالمنى واغتدى ** قدرك فوق النجم مرفوعا

يا منقذي من حلقات الردى ** حاشاك أن تقتلني جوعا

فكتب ابن البرخشي إليه الجواب:
تبعت مرسومك يا ذا العلى ** لا زال مرسومك متبوعا

لكن إشفاقي على من به ** أمسى غريب القول مسموعا

أوجب تأخيرًا الغذا يومنا ** وفي غد نستدرك الجوعا

اصبر فما أقصرها مدة ** وإن تلكأت فأسبوعا

فأجابه هو:
يا عالمًا أين ثوى رحله ** جرى من العلم ينابيعا

لم عندك الأعمار موصولة ** يضحى ويمسي الرزق مقطوعا

واللّه إن بت ولم يجدني ** شعري يا ذا الفضل منفوعا

ليخلعن الجوع مني الحيا ** وأوسعن العلم تقطيعا

.ابن صفية:

هو أبو غالب بن صفية، وكان نصرانياً، وقال بعض العراقيين إن أبا المظفر يوسف المستنجد باللّه كان خليفة صارمًا متيقظًا فتاكاً، وكان وزيره أبو المظفر يحيى بن هبيرة، ثم توفي فاستوزر شرف الدين بن البلدي، وكان يجري مجراه، وكان في الدولة أمراء أكابر، كان متقدم الجماعة قطب الدين قايماز، وكان أصله أرمنيا وقد عظم شأنه وعلا مكانه، واستولى على البلاد وتحكم في الدولة، ولم يبق له ضد ولا مناو، وعمد إلى أكابر أمراء الدولة فزوجهم ببناته، وكان بينه وبين الوزير مما تراه، ويخوفه من استطالة قطب الدين ومن يجري معه من الأمراء، فاطلع الطبيب على بعض الأحوال وأراد التقرب عند الأمير قطب الدين، فنقل إليه الحديث، واستمر الحال على ذلك، فلما مرض الخليفة عزم في القبض على قطب الدين وجماعته، واطلع ابن صفية على ذلك، فمضى على قطب الدين وعرفه الحال وقال له قد جرى من الوزير كذا وكذا فتغد به قبل أن يتعشى بك، فأخذ قطب الدين يعمل فكرته ورأيه في التدبير في مكايد الوزير، وثقل الخليفة في المرض واشتغل عما كان قد دبره مع الوزير في القبض على الأمراء، فأجمع قطب الدين رأيه على قتل الخليفة ثم يتفرغ لهلاك الوزير، فأسفر رأيه على أنه قرر مع ابن صفية الطبيب أن يصف للخليفة الحمام، فدخل الحكيم إلى الخليفة وأشار بالحمام والخليفة يعلم من نفسه الضعف فأبى ذلك، فدخل قطب الدين وبعض الجماعة وقال يا مولانا، الحكيم قد أشار الحمام، فقال قد رأينا أن نؤخره، فغلبوا على رأيه وأدخلوه الحمام، وقد كان أوقد عليه ثلاثة أيام بلياليهن وردوا عليه باب الحمام ساعة فمات، وأظهروا الحزن العظيم وأتوا إلى ولده أبي محمد الحسن فاستخلفوه على ما أرادوا وبايعوه، ولقب بالمستضيء بأمر اللّه، وأقام مدة وفي نفسه شيء مما فعلوا، وكان قد استوزر عضد الدين أبا الفرج ابن رئيس الرؤساء، وكان ابن صفية الطبيب على حاله ملازم الخدمة، فشرع الخليفة في الاستبداد بالأمور مع وزيره وكان قطب الدين قايماز وابن صفية مهما اطلع عليه من الأحوال نقله إلى قطب الدين وهو متردد إلى الدار، ولا يمنع لكونه طبيب الخدمة، فاستحضره الخليفة ليلًا وقال له يا حكيم عندي من أكره رؤيته وأريد إبعاده بوجه لطيف غير شفيع، فقال له نرتب له شربة قوية بالغة يشربها، وقد حصل الخلاص من كما تؤثر، فمضى وركب شربة كما وصف وأحضرها ليلًا ودخل بها إلى عند الخليفة، ففتحها ونظر إليها، وقال يا حكيم استف هذه الشربة حتى نجرب فعلها، فتلوى من ذلك وقال اللّه اللّه يا مولانا في؟ فقال له الطبيب متى تعدى حده وتجاوز طوره وقع في مثل هذا، وليس لك من هذا خلاص إلا السيف، فاستف الحكيم الشربة التي ركبها وفر من الهلاك إلى الهلاك، ثم خرج من دار الخليفة وكتب إلى الأمير قطب الدين بشعره بالحال ويقول له والانتقال من أمري إلى أمركم، ثم هلك.
وأما قطب الدين فعزم أن يوقع بالخليفة، فرد اللّه سبحانه كيده إليه، ونهبت أمواله وهرب من بغداد بنفسه ومضى إلى الشام إلى الملك الناصر صلاح الدين فلم يقبله، وعاد على طريق البرية إلى الموصل فمرض في الطريق ثم دخل الموصل فمات بها، أقول وضد هذه الحكاية ما حدثني به شمس الدين محمد بن الحسن بن الكريم البغدادي عن بعض المشايخ ببغداد قال كان السلطان محمد بن محمود خوارزمشاه قد حضر بغداد في سنة خمسمائة فمرض وهو بعسكره ظاهر البلد، ومرض الخليفة المقتفي أبو عبد اللّه محمد بن المستظهر ببغداد، فأنفذ السلطان يلتمس الرئيس أمين الدولة بن التلميذ فأخرج إلى ظاهر المدينة فكان يداويه بظاهر بغداد، ويداوي الخليفة ببغداد فقال له وزير السلطان أيها الرئيس إني قد كنت عند السلطان، وذكرت له من فضلك وأدبك ورآستك، وقد أمر لك بعشرة آلاف دينار، فقال له يا مولانا، قد أمر لي من بغداد بإثني عشر ألف دينار أفيأذن لي في قبولها السلطان؟ يا مولانا، أنا رجل طبيب، لا أتجاوز وظائف الأطباء وما يلزمهم، ولا أعرف إلا ماء الشعير والنقوع وشراب البنفسج النيلوفر ومتى أخرجت عن هذا لا أعرف شيئاً.
وكان الوزير قد عرض له في حديثه بما معناه أنه يدبر في إتلاف الخليفة، وقدر اللّه سبحانه برء الخليفة والسلطان ووقع بينهما على ما اقترحه الخليفة، وهذا كان من عقل الرئيس أمين الدولة ودينه وأمانته، فإنه كان يقول لا ينبغي للطبيب أن يداخل الملوك في أسرارهم، ولا يتجاوز كما تقدم ذكره ماء الشعير والنقوع والشراب، فمتى جاوز هذا تلف وكان سبب هلاكه، وكان ينشد:
وإذا أنبت المهيمن للنمل ** جناحًا أطارها للتردي

ولكل امرئ من الناس حد ** وهلاك الفتى جواز الحد

.أمين الدولة بن التلميذ:

هو الأجل موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن هبة اللّه بن أبي العلاء صاعد بن إبراهيم بن التلميذ أوحد زمانه في صناعة الطب، وفي مباشرة أعمالها، ويدل على ذلك ما هو مشهور من تصانيفه وحواشيه على الكتب الطبية، وكثرة من رأيناه ممن قد شاهده، وكان ساعور البيمارستان العضدي ببغداد إلى حين وفاته، وكان في أول أمره قد سافر إلى بلاد العجم، وبقي بها وهو في الخدمة سنينًا كثيرة، وكان جيد الكتابة يكتب خطًا منسوباً، وقد رأيت كثيرًا من خطه وهو في نهاية الحسن والصحة، وكان خبيرًا باللسان السرياني والفارسي متبحرًا في اللغة العربية وله شعر مستطرف، حسن المعاني، إلا أن أكثر ما يوجد له البيتان أو الثلاثة وأما القصائد فلم أجد له منها إلا القليل، وكان أيضًا يترسل، وله ترسل كثير جيد، وقد رأيت له من ذلك مجلدًا ضخمًا كله يحتوي على إنشاء ومراسلات وأكثر أهله كتّاب، وكان والد أمين الدولة وهو أبو العلاء صاعد طبيبًا فاضلًا مشهوراً، وكان أمين الدولة وأوحد الزمان أبو البركات في خدمة المستضيء بأمر اللّه، وكان أبو البركات أفضل من ابن التلميذ في العلوم الحكمية وله فيها كتب جليلة، ولو لم يكن له إلا كتابه المعروف بالمعتبر لكفى، فأما ابن التلميذ فكان أكثر تبصره بصناعة الطب واشتهر بها، وكان بينهما شنآن وعداوة، إلا أن ابن التلميذ كان أوفر عقلًا وأخير طباعًا من أبي البركات، ومن ذلك أن أوحد الزمان كان قد كتب رقعة يذكر فيها عن ابن التلميذ أشياء يبعد جدًا أن تصدر عن مثله، ووهب لبعض الخدم شيئًا واستسره أن يرميها في بعض طرق الخليفة من حيث لا يعلم بذلك أحد، وهذا مما يدل على شر عظيم، بعد ذلك رجع إلى رأيه وأشير عليه أن يبحث ويستأصل عن ذلك، وأن يستقر من الخدم من يتهمه بهذا الفعل، ولما فعل ذلك انكشف له أن أوحد الزمان كتبها للوقيعة بابن التلميذ، فحنق عليه حنقًا عظيمًا ووهب دمه وجميع ماله وكتبه لأمين الدولة بن التلميذ، ثم أن أمين الدولة كان عنده من كرم الطباع وكثرة الخيرية أنه لم يتعرض له بشيء، وبعد أوحد الزمان بذلك عن الخليفة وانحطت منزلته ومن مطبوع ما لأمين الدولة فيه، قوله:
لنا صديق يهودي حماقته ** إذا تكلم تبدو فيه من فيه

يتيه والكلب أعلى منه منزلة ** كأنه بعد لم يخرج من التيه

ولبعضهم في أمين الدولة وأوحد الزمان:
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ** أبو البركات في طرفي نقيض

فهذا بالتواضع في الثريا ** وهذا بالتكبر في الحضيض

ونقلت من خط الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي فيما حكاه عن الأجل أمين الدولة بن التلميذ قال كان أمين الدولة حسن العشرة، كريم الأخلاق، عنده سخاء ومروءة، وأعمال في الطب مشهورة، وحدوس صائبه، منها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها وصب الماء المبرد عليها صبًا متتابعًا كثيراً، ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفيء قد بخر بالعود والند، ودثرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها، قال ودخل إليه رجل منزف يعرق دمًا في زمن الصيف، فسأل تلاميذه وكانوا قدر خمسين نفسًا فلم يعرفوا المرض، فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام فبرأ، فسأله أصحابه عن العلة فقال إن دمه قد رق ومسامه قد تفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام قال ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه، فإذا أبل وهب له دينارين وصرفه.
ومما حكاه أيضًا عن أمين الدولة بن التلميذ وكأنه قد تجاوز في هذه الحكاية قال وكان أمين الدولة لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، فعرض لبعض الملوك النائية داره مرض مزمن فقيل له ليس لك إلا ابن التلميذ، وهو لا يقصد أحدًا فقال أنا أتوجه إليه، فلما وصل أفرد له ولغلمانه دورًا وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية، ولبث مدة فبرئ الملك وتوجه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجار أربعة آلاف دينار وأربعة تخوت عتابي وأربعة مماليك وأربعة أفراس، فامتنع من قبولها وقال علي يمينًا أن لا أقبل من أحد شيئًا فقال التاجر هذا مقدار كثير قال لما حلفت ما استثنيت، وأقام شهرًا يراوده ولا يزداد إلا إباءً، فقال له عند الوداع ها أنا أسافر ولا أرجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال فتتقلد منته، وتفوتك منفعته، ولا يعلم أحد بأنك رددته، فقال ألست أعلم في نفسي أني لم أقبله، فنفسي تشرف بذلك، عَلِم الناس أو جهلوا.
وحدثني الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، قال حدثني الشيخ موفق الدين أسعد بن الياس بن المطران، قال حدثني أبي حدثني إسماعيل بن رشيد قال؛ حدثني أبو الفرج بن توما وأبو الفرج المسيحي، قالا كان الأجل أمين الدولة بن التلميذ جالسًا ونحن بين يديه إذ استأذنت عليه امرأة ومعها صبي صغير، فأدخلت عليه، فحين رآه بدرها، فقال أن صبيك هذا به حرقة البول، وهو يبول الرمل، فقالت نعم، قال فيستعمل كذا وكذا وانصرفت، قالا فسألناه عن العلامة الدالة على أن به ذلك، وأنه لو أن الآفة في الكبد أو الطحال لكان اللون من الاستدلال مطابقاً، فقال حين دخل رأيته يولع بإحليله ويحكه، ووجدت أنامل يديه مشققة قاحلة، فعلمت أن الحكمة لأجل الرمل، وأن تلك المادة الحادة الموجبة للحكة والحركة ربما لا مست أنامله عند ولوعه بالقضيب فتقحل وتشقق، فحكمت بذلك وكان موافقاً.
ومن نوادر أمين الدولة وحسن إشاراته إنه كان يومًا عند المستضيء بأمر اللّه، وقد أسن أمين الدولة، فلما نهض للقيام توكأ على ركبتيه، فقال له الخليفة كبرت يا أمين الدولة، فقال نعم يا أمير المؤمنين، وتكسرت قواريري، ففكر الخليفة في قول أمين الدولة وعلم أنه لم يقله إلا لمعنى قد قصده وسأل عن ذلك فقيل له إن الإمام المستنجد باللّه كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير وبقيت في يده زماناً، ثم من مدة ثلاث سنين حط الوزير يده عليها، فتعجب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة، وأنه لم ينه أمرها إليه ولا عرض بطلبها ثم أمر الخليفة بإعادة الضيعة إلى أمين الدولة، وأن لا يعارض في شيء من ملكه.
ومن نوادره إن الخليفة كان قد فوض إليه رئاسة الطب ببغداد، ولما اجتمع إليه سائر الأطباء ليرى ما عند كل واحد منهم من هذه الصناعة، كان من جملة حضره شيخ له هيئة ووقار وعنده سكينة، فأكرمه أمين الدولة وكانت لذلك دربة ما بالمعالجة، ولم يكن عنده من علم صناعة الطب إلا التظاهر بها، فلما انتهى الأمر إليه قال له أمين الدولة ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟ فقال يا سيدنا، وهل شيء مما تكلموا فيه إلا وأنا أعلمه، وقد سبق إلى فهي أضعاف ذلك مرات كثيرة؟ فقال له أمين الدولة فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟ فقال الشيخ يا سيدنا إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يبقى يليق به إلا أن يسأل كم له من التلاميذ، ومن هو المتميز فيهم، وأما المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل، فقال له أمين الدولة يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضر ذكره، ومع هذا، فما علينا، أخبرني أي شيء قد قرأته من الكتب الطبية؟ وكان قصد أمين الدولة أن يتحقق ما عنده، فقال سبحان اللّه العظيم، صرنا إلى حد ما يسأل عن الصبيان، وأي شيء قد قرأته من الكتب، يا سيدنا لمثلي ما يقال إلا أي شيء صنفته في صناعة الطب، وكم لك فيها من الكتب والمقالات؟ ولا بد إنني أعرفك بنفسي، ثم إنه نهض إلى أمين الدولة ودنا منه وقعد عنده، وقال له، فيما بينهما يا سيدي، إعلم أنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي عائلة، فسألتك باللّه ياسيدنا مشي حالي ولا تفضحني بين هؤلاء الجماعة، فقال أمين الدولة على شريطة، وهي أنك لا تهجم على مريض بما تعلمه، ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض، فقال الشيخ هذا مذهبي منذ كنت، ما تعديب السكنجبين والجلاب، ثم إن أمين الدولة قال له معلناً، والجماعة تسمع يا شيخ، اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك، والآن قد عرفناك، استمر فيما أنت فيه، فإن أحدًا ما يعارضك، ثم إنه عاد بعد ذلك فيما هو فيه مع الجماعة، وقال لبعضهم على من قرأت هذه الصناعة وشرع في امتحان، فقال يا سيدنا، أنا من تلامذة هذا الشيخ الذي قد عرفته، وعليه كنت قد قرأت صناعة الطب، ففطن أمين الدولة بما أراد من التعريض بقوله، وتبسم ثم امتحنه بعد ذلك.
وكان لأمين الدولة بن التلميذ أصحاب وجماعة يترددون إليه، فلما كان في بعض الأيام أتى إليه ثلاثة، منجم، ومهندس، وصاحب أدب، فسألوا عن أمين الدولة غلامه قنبر، فذكر له أن سيده ليس في الدار، وأنه لم يأت في ذلك الوقت، فراحوا، ثم إنهم عادوا في وقت آخر، وسألوه عنه، فذكر لهم مثل قوله الأول، وكان لهم ذوق من الشعر فتقدم المنجم وكتب على الحائط عند باب الدار:
قد بلينا في دار ** أسعد قوم بمدبر

ثم كتب المهندس بعده:
بقصير مطول ** وطويل مقصر

ثم تقدم صاحب الأدب وكان عنده مجون فكتب:
كم تقولون قنْبرًا ** دحرجوا رأس قنْبرَ

ومضوا، فلما جاء أمين الدولة قال له قنبر يا سيدي جاء ثلاثة إلى ها هنا يطلبونك، ولما لم يجدوك، كتبوا هذا على الحائط، فلما قرأه أمين الدولة قال لمن معه يوشك أن يكون هذا البيت الأول خط فلان المنجم؛ وهذا البيت الثاني خط فلان المهندس؛ وهذا الثالث خط فلان صاحبنا، فإن كل بيت يدل على شيء مما يعانيه صاحبه، وكان الأمر كما حدسه أمين الدولة سواء، وكانت دار أمين الدولة هذه يسكنها ببغداد في سوق العطر مما يلي بابه المجاور لباب الغربة من دار الخلافة المعظمة، بالمشرعة النازلة إلى شاطئ دجلة.
وقال أمين الدولة بن التلميذ فكرت يومًا في أمر المذاهب فرأيت هاتفًا في النوم وهو ينشدني:
أعوم في بحرك علي أرى ** فيه لما أطلبه قعرا

فما أرى فيه سوى موجة ** تدفعني عنها إلى أخرى

وحدثني سعد الدين بن أبي السهل البغدادي العواد، وكان قد عمر، قال رأيت أمين الدولة بن التلميذ واجتمعت به، وكان شيخًا ربع القامة، عريض اللحية، حلو الشمائل كثير النادرة، قال وكان يحب صناعة الموسيقى وله ميل إلى أهلها.
وحدثني سديد الدين محمود بن عمرو، رحمه اللّه، قال حدثني الإمام فخر الدين محمد بن عبد السلام المارديني وكان صديقًا لأمين الدولة وعاشره مدة، قال كان الأجل أمين الدولة بن التلميذ من المتميزين في العربية، وكان يحضر مجلسه في صناعة الطب خلق كثير يقرؤون عليه، وكان اثنان من النحاة يلازمان مجلسه ولهما منه الإنعام والإفتقاد، فكان من يجده من المشتغلين عليه يلحن كثيرًا في قراءته، أو هو ألكن يترك أحد ذينك النحويين يقرأ عنه وهو يسمع، ثم يأمر ذلك التلميذ أيضًا بأن يقرر للنحوي شيئًا يعطيه إياه عن قراءته عنه، وكان لأمين الدولة ولد، ولم يكن مدركًا لصناعة الطب، وكان في سائر أحواله بعيدًا عما كان عليه أمين الدولة، ولأمين الدولة فيه:
أشكو إلى اللّه صاحبًا شكسًا ** تسعفه النفس وهو يعسفها

فنحن كالشمس والهلال معًا ** تكسبه النور وهو يكسفها

وكان أمين الدولة يؤنب ولده أيضًا بهذا البيت:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ** وأراه أسهل ما عليك يضيع

وحدثني الشيخ الإمام رضي الدين الطبيب الرحبي رحمه اللّه قال اجتمعت في بغداد بابن أمين الدولة، فلما جرى بيننا حديث قال في سياقة كلامه إن في السماء من الجانب الجنوبي مثقبًا تطلع فيه الأدخنة، وتنزل منه الأرواح، وبدت منه أشياء كثيرة من هذا القبيل ظهر بها أن ليس عنده شيء من تحقيق العلم، ولا له فطرة سليمة.
وحدثني الشيخ السني البعلبكي الطبيب قال راح من عندنا من دمشق ثلاثة من أطباء النصارى إلى بغداد، سماهم، فلما أقاموا بها سمعوا بابن أمين الدولة فقالوا سمعة والده عظيمة، والمصلحة أننا نروح إليه، ونسلم عليه ونخدمه، ونكون قد اجتمعنا به قبل السفر إلى الشام، فقصدوا داره ودخلوا إليه وسلموا وعرفوه أنهم نصارى، وإن قصدهم التشرف برؤيته، فأكرمهم وأجلسهم عنده، قال السني فحدثوني أنه تبين لهم سخافة عقل وضعف رأي، وذلك أنه من جملة ما حدثهم أنه قال يقولون أن الشام مليح؛ ودمشق طيبة، وأنا قد عزمت أن أبصرها، إلا أنني أعمل من حيث العلم والهندسة شيئًا أكون إذا سافرت إليها يكون بسهولة، ولا أجد كلفة، قالوا فقلنا له يا سيدنا، كيف تعمل؟ فقال أما تعلمون أن الشام منخفض عن إقليم بغداد وأنه مستقل عنه، وذلك مذكور في علم الهيئة وارتفاع المواضع بعضها عن بعض، فقلنا نعم يا سيدنا، فقال أستعمل عجلًا من الخشب ببكر كبار، ويكون فوقهم دفوف مبسوطة مسمرة؛ واجعل فوقهم جميع ما أحتاج إليه؛ وإذا أطلقنا العجل تروح بالبكر بسرعة في الانحدار، ولا نزال كذلك إلى أن نصل إلى دمشق بأهون سعي، قالوا فتعجبنا من غفلته وجهله، ثم قال واللّه ما تروحون حتى أضيفكم وتأكلون عندي طعاماً، وصاح بالفراش فأحضر سفرة فاخرة ومد عليها رقاقًا رفيعًا أبيض لا يكون شيء أحسن منه، كأنه النصافي البغدادية، وهنابًا فيه خل وهندبًا منقاة جعلها حواليه، ثم قال بسم اللّه كلوا، قالوا فأكلنا شيئًا يسيرًا إذ هو على خلاف عادتنا في الأكل، ثم رفع يديه وقال يا غلام هات الطست، فأحضر طستًا مفضضًا وقطعة صابون رقى كبيرة؛ وسكب عليه الماء وهو يغسل يديه فأرغى الصابون ثم مسح به فمه ووجهه ولحيته، حتى بقيت عيناه ووجهه ملآن من ذلك الصابون وهو أبيض، ونظر إلينا، قالوا وكان منا فلان لم يتمالك أن ضحك وزاد عليه وقام فخرج من عنده، فقال ما لهذا؟ فقلنا له يا سيدنا هذا فيه خفة عقل وهذه عادته، فقال لو أقام عندنا داويناه، فتعجبنا منه ثم ودعناه وانصرفنا، ونحن نسأل اللّه العافية مما كان فيه من الجهل، وحدث بعض العراقيين أن أمين الدولة مات، لصديق له ولد، وكان ذا أدب وعلم، ولم يعزه أمين الدولة، فلما اجتمع به بعد ذلك عتب عليه إذ لم يعزه عن ولده للمودة التي بينها، فقال أمين الدولة لا تلمني في هذا، فواللّه أنا أحق بالتعزية منك، إذ مات ولدك وبقي مثل ولدي.
ووجدت كلامًا لأمين الدولة في ضمن رسالة كتبها إلى ولده، وكان يعرف برضي الدولة أبي نصر قال والتفت بذهنك عن هذه الترهات إلى تحصيل مفهوم تتميز به، وخذ نفسك من الطريقة بما كررت تنبيهك عليه، وإرشادك إليه، واغتنم الإمكان، واعرف قيمته، وتشاغل بشكر اللّه تعالى عليه، وفز بحظ نفيس من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته، لأقرأته ورويته، فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه، ومن طلبها من دونه، فإما أن لا يجدها، وإما أن لا يعتمد عليها إذا وجدها ولا يثق بدوامها، وأعوذ باللّه أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعلو همته، وشدة أنفته، وغيرته على نفسه، ومما قد كررت عليك الوصاة به أن لا تحرص على أن تقول شيئًا لا يكون مهذبًا في معناه ولفظه، ويتعين عليك إيراده، فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للأغمار وأهل الجهالة، نزهك اللّّه عن طبقتهم، فإن الأمر كما قال أفلاطن الفضائل مرة الورد حلوة الصدر، والرذائل حلوة الورد مرة الصدر، وقد زاد أرسطو طاليس في هذا المعنى فقال إن الرذائل لا تكون حلوة الورد عند ذي فطرة فائقة، بل يؤذيه تصور قبحها أذى يفسد عليه ما يستلذه غيره منها، وكذلك يكون صاحب الطبع الفائق قادرًا بنفسه على معرفة ما يتوخى وما يجتنب، كالتام الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار، فلا ترض لنفسك، حفظك اللّه، إلا بما تعلم أنه يناسب طبقة أمثالك، وأغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين؛ واطح بنفسك إليها تتركك في طاعة عقلك، فإنك تسر بنفسك وتراها في كل يوم مع اعتماد ذلك في رتبة علية، ومرقاة من سماء في السعادة.
وكانت وفاة أمين الدولة ببغداد في الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ستين وخمسمائة، وله من العمر أربع وتسعون سنة، ومات نصرانياً، وخلف نعمًا كثيرة وأموالًا جزيلة، وكتبًا لا نظير لها في الجودة، فورث جميع ذلك ولده وبقي مدة، ثم إن ولد أمين الدولة خنق في دهليز داره الثلث الأول من الليل، وأخذ ماله، ونقلت كتبه على اثني عشر جملًا إلى دار المجد بن الصاحب، وكان ابن أمين الدولة قد أسلم قبل موته، وقيل إنه كان شيخًا قد ناهز الثمانين سنة، ووجدت في أثناء كتاب كتبه السيد النقيب الكامل بن الشريف الجليل إلى أمين الدولة بن التلميذ وهو يمتدحه فيه بهذه القصيدة:
أمين الدولة أسلم للأيادي ** علي رغم المناوي والمعادي

وللمعروف تنشره إذا ما ** طواه تناوب النوب الشداد

فأنت المرءُ تُلفى حين تدعى ** جوادًا بالطريف وبالتلاد

وصولًا للخليل على التنائي ** ودودًا لا يحول عن الوداد

سديد الرأي والأقوال تأبى ** نهاه أن يميل عن السداد

ساشكر ما صنعت من الأيادي ** إليّ على التداني والبعاد

وأثني والثناء عليك حق ** بما أوليتني في كل نادي

وهل شكري على مر الليالي ** ينال مدى ولائي واعتقادي

دعوتك والزمان به حران ** فأمسى وهو لي سهل القياد

اديه فيسمعني وقدمًا ** تجانب لي أصم عن المنادي

وكم من منة لك لا توازي ** بلا مَنٍّ لدي ولا اعتداد

ومن بيضاء قد عمرت بقلبي ** محلك منه في أقصى سواد

أرى الأشواق نحوك في فؤادي ** كمثل النار في حجر الزناد

متى ولعت به ذكراك كادت ** لحر الوجد تلفظني بلادي

تحن ركائبي وأحن شوقًا ** إذا خطر اللقاء على فؤادي

وأطمع في الرقاد رجاء زور ** يلم وأين طرفي والرقاد

سأبعثها تثير البيد وخدًا ** وتعتسف الظلام بغير هادي

لو ان النجم جاراها دليلًا ** تحير أو شكا طول السهاد

تلفت بي إلى الزوراء زورًا ** كما التفتت إلى الماء الصوادي

ولو أن الزمان جرى ومن لي ** بان يجري الزمان على مرادي

وأمكنني المزار لما عدتني ** وحقك عن زيارتك العوادي

فمن لي أن تسيرني المطايا ** إليك ولو سريت بغير زاد

أقول لصاحب لم يدر جهلًا ** أغيي ما تحاول أم رشادي

إذا واليت فانظر من توالي ** وإن عاديت فانظر من تعادي

ودعني والثناء على مبر ** عرفت به صلاحي من فسادي

على متوحد في الفضل سام ** إلى أمد العلي مبني الأيادي

أخي حكم شواهدها عليه ** بواد في الحواضر والبوادي

إذا ما قِيسَ فصرَّ عنه قس ** وقس ما علمنا في إياد

وإن جاورته جاورت عيثًا ** يذوب نداه في العام الجماد

أو استنجدته أعداك منه ** أخو عزم على الأيام عادي

جواد بالذي تحوي يداه إذا ** نودي ألا هل من جواد

يجيبك قبل أن تدعو نداه ** ويكفي كل حادثة بنادي

أخو كرم يقل العتب فيه ** وإفضال تقر به الأعادي

وأخلاق كمثل الراح شيبت ** بمشمول من الصفو البراد

بأدنى سعيه حاز المعالي ** وأخفق غيره بعد اجتهاد

وفي الغايات أن لز المذاكي ** تبَين المقرفات من الجياد

أبا الحسن استمع مني ثناء ** حلا فخلا من المعنى المعاد

كأنفاس الرياض سرت عليها ** صبا فتعطرت غب العهاد

أنادي فيه باسمك والقوافي ** تؤرج لا بسُعدي أو سعاد

وقد عرضته لك مستجيرًا ** بعدلك فيه من جور انتقاد

ومثلك من رأى قصد القوافي ** إليه وقال فيها باقتصاد

جزيت الصالحات فأنت أهل ** لها وسقيت أنواء الغوادي

ودمت على الزمان وكل شيء ** على مر الزمان إلى نفاد

وقال الشريف أبو يعلى محمد بن الهبارية العباسي من قصيدة يمدح بها الأجل أمين الدولة بن التلميذ يقول فيها:
يا بني التلميذ لو وافيتكم ** لم تكن نفسي بأهلي شغفه

وتسليت بكم عن صبيتي ** وغدا وسطي ثقيل المنصفه

إنما طلقت كرمان بكم ** أنكم لي عوض ما أشرفه

برئيس الحكماء المرتجى ** إنه لي جنة مخترفه

عوقتني عن عميد الملك ** دنياي ودنياي ظلوم مجحفه

لو رآني هبة اللّه أبو الحسن ** الأوحد كانت متحفة

فهو من نخلة دهري طلعة ** حلوة الطعم وكلٌّ حشفه

غدت الدنيا، ومن فيها معاً ** لعلاه بالعلي معترفه

فأماني الورى، كلهم ** من أيادي جوده مغترفه

وبأبراد معالي ظله ** من تصاريف الردى ملتحفه

شمس مجد لا تراها أبداً ** عن سموات العلى، منكسفه

جل أن يدرك وصفًا مجده ** أنه أكبر من كل صفه

فهو غدر الدهر، بل إحسانه ** والبرايا يبسات قشفه

لو تمكنت لكانت جملتي ** في زوايا داره معتكفه

سن، في دنيا المعالي، سننًا ** أصبحت معجبة مستظرفه

فيه تفتخر الدنيا التي ** أصبحت من غيره مستنكفه

سيدي، كم غمة جليتها ** فغدت ظلمتها منكشفه

وأياد جمة أوليتها **بيد ما برحت مرتشفه

نثرت منك بروق لم تكن ** حين شمناها بروقًا مخلفه

وتراءى منك بر شكره ** معجز كل لسان وشفه

إنما أحبو بني التلميذ بالمدح ** إذ كلهم ذو معرفة

فابن يحيى منه محيي الندى ** زاد في الجود على مَن خلفه

وهو في الفضل له الفضل على ** كل من أنكره أو عرفه

حقق الكنية من والده ** كرما فيه وطبعًا ألفه

وهم من صاعد عن سادة ** بأبي مجدهم ما أنظفه

لا تقسهم بالورى كلهم ** فتقس ليث الشرى بالجعدفه

فابن إبراهيم، لاهوت العلى ** من دعاه بشرًا ما أنصفه

يا رئيس الحكماء استجلها ** من بنات الفكر بكرا مترفه

إنني أنفذت نخلي قاصداً ** اشكتي دهرًا قليل النصفه

وبإنعامك قد عللتها ** أنه يجلو الخطوب المغدقه

فابق للمجد ثمالًا ما رغت ** لغبًا جسرة سار موجفه

كم لكم من نعمة تالدة ** تترجى أختها المطرفة

جددوا إيرادها يا سادتي ** بأياد منكم مؤتنفه

وكتب أبو إسماعيل الطغرائي إلى أمين الدولة بن التلميذ:
يا سيدي والذي مودته ** عندي روح يحيا بها الجسد

من ألم الظهر أستغيث وهل ** يألم ظهر إليك يستند

وكان محمد بن جكينا قد مرض وزاره أمين الدولة فقال فيه ابن جكينا:
قصدت ربعي فتعالى به ** قدري فدتك النفس من قاصد

فما رأى العالم من قبلها ** بحرًا مشى قط إلى وارد

وكان بعض الشعراء ببغداد أتى إلى أمين الدولة وشكى حاله واستوصفه فوصف ما يصلح للمرض الذي شكاه، ثم دفع له صرة فيها دنانير وقال له هذه تصلح بها مزوَّرة زيرباج فأخذها وبرأ بعد أيام فكتب إليه:
أتيته أشتكي وبي مرض ** إلى التداوي والرفد محتاج

فقلت إذ برني وأبراني ** هذا طبيب عليه زرباج

ومن كلام أمين الدولة بن التلميذ، حدثني سديد الدين بن رقيقة، قال؛ حدثني فخر الدين المارديني، قال كان يقول لنا أمين الدولة لا تقدِّروا، إن أكثر الأمراض تحيطون بها خبرة، فإن منها ما يأتيكم من طريق السماوة، وكان يقول أيضًا متى رأيت شوكة في البدن ونصفها ظاهر فلا تشترط أنك تقلعها، فإنها ربما انكسرت.
ومن كلامه قال ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا تحسده عليه العامة، ولا تحقره فيه الخاصة، ومن شعر الأجل أمين الدولة بن التلميذ، وهو مما أنشدني مهذب الدين أبو نصر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي مما سمعه من والده قال أنشدني أمين الدولة بن التلميذ لنفسه:
حبي سعيدًا جوهرا ثابت ** وحبه لي عرض زائل

به جهاتي ألست مشغولة ** وهو إلى غيري بها مائل

وأنشدني أيضًا قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه:
إذا وجد الشيخ في نفسه ** نشاطًا فذلك موت خفي

ألست ترى أن ضوء السراج ** له لهب قبل أن ينطفي

وأنشدني أيضًا قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه:
تعس القياس فللغرام قضية ** ليست على نهج الحجى تنقاد

منها بقاء الشوق وهو بعرفنا ** عرض وتفنى دونه الأجساد

وأنشدني أيضًا قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه في الوزير الدركزيني:
قالوا فلان قد وزر ** فقلت كلا لا وزر

واللّه لو حكمت فيه ** جعلته يرعى البقر

وأنشدني أيضًا قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه:
قال الأنام وقد رأوه ** مع الحداثة قد تصدر

من ذا المجاوز قدره ** قلت المقدم بالمؤخر

وأنشدني أيضًا قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه:
قد قلت للشيخ الجليل ** الأريحي أبي المظفر

ذكرّ فلان الدين بي ** قال المؤنثْ لا يذكر

وأنشدني أيضًا قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه لغزا في السمك:
لبس الجواشن خوف الردى ** وعلين فوق الرؤوس الخوذ

فلما أتاها الردى أهلكت ** بشم نسيم الهوا المستلذ

ومن شعر أمين الدولة بن التلميذ أيضًا قال:
سق النفس بالعلم نحو الكمال ** تواف السعادة من بابها

ولا ترج ما لم تسبب له ** فإن الأمور بأسبابها

وقال أيضًا:
لولا حجاب أمام النفس يمنعها ** عن الحقيقة فيما كان في الأزل

لأدركت كل شيء عزّ مطلبه ** حتى الحقيقة في المعلول والعلل

وقال أيضًا:
العلم للرجل اللبيب زيادة ** ونقيصة للأحمق الطياش

مثل النهار يزيد أبصار الورى ** نورًا ويغشى أعين الخفاش

وقال أيضًا:
بزجاجتين قطعت عمري ** وعليهما عولت دهري

بزجاجة ملئت بحبر ** وزجاجة ملئت بخمر

فبذي أثبَّت حكمتي ** وبذي أزيل هموم صدري

وقال أيضًا:
واضع كالبدراستنار لناظ ** على صفحات الماء وهو رفيع

ومن دونه يسمو إلى المجد صاعدًا ** سمو دخان النار وهو وضيع

وقال أيضًا:
إذا كنت محمودًا فإنك مرمد ** عيون الورى فأكحلهم بالتواضع

وقال أيضًا:
لا تحقرن عدوًا لان جانبه ** ولو يكون قليل البطش والجلد

فللذبابة في الجرح الممدّ يدٌ ** تنال ما قصرت عنه يد الأسد

وقال أيضًا:
نفس الكريم الجواد باقية ** فيه وإن مس جلده لعجف

والحرحر وإن ألم به ** الضر ففيه العفاف والأنف

والنذل لا يهتدي لمكرمة ** لأن ذاك المزاج منحرف

فالقطر سم إن احتواه فم الصل ** ودر إن ضمه الصدف

وقال أيضًا:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة ** فصحوت فاستأنفت سيرة مجمل

وقعدت أرتقب الفناء كراكب ** عرف المحل فبات دون المنزل

وقال أيضًا:
قالوا شباب الفتى خؤون ** والشيب واف فليس يرحل

فقلت أبعدتم قياسًا ** ذاك حبيب وذا موكل

وقال أيضًا:
وأرى عيوب العالمين ولا أرى ** عيبًا لنفسي وهو مني قريب

كالطرف يستجلي الوجوه ووجهه ** منه قريب وهو عنه مغيب

وقال أيضًا:
أجدَّك إن من شيم الليالي ** العنيفة أن تجور على اللهيف

كمثل الخلط أغلب ما تراه ** يصب أذاه في العضو الضعيف

وقال أيضًا:
كأس يُطفي لهب الأوام ** ثان يعين هاضم الطعام

وللسرور ثالث المدام ** والعقل ينفيه مزيد جام

وقال أيضًا:
يامن رماني عن قوس فرقته ** بسهم هجر غلا تلافيه

أرض لمن غاب عنك غيبته ** فذاك ذنب عقابه فيه

لو لم ينله من العذاب سوى ** بعدك عنه لكان يكفيه

وقال أيضًا:
عاتبت إذ لم يزر خيالك ** والنوم بشوقي إليه مسلوب

فزارني منعمًا وعاتبني ** كما يقال المنام مقلوب

وقال أيضًا:
لسيف جفونك فضل على ** مواضي السيوف التي في الجفون

فتلك مع القتل لا تستطيع ** رجع النفوس بدفع المنون

وعيناك يقتلني شزرها ** وأحيا بإيماضها في سكون

وقال أيضًا:
تمت محاسنه سوى كلف ** حلو المواقع زانه بشر

وسموا به لألآء غرته ** عمدًا ليعلم أنه بَدْرُ

وقال أيضًا:
لا تحسبنَّ سواد الخال عن خلل ** من الطبيعة أو إحداثه غلطا

وإنما قلم التصوير حين جرى ** بنون حاجبه في خده نقطا

وقال أيضًا:
أبصره عاذلي عليه ** ولم يكن قبله رآه

فقال لي لو عشقت هذا ** ما لامك الناس في هواه

قل لي إلى من عدلت عنه ** وليس أهل الهوى سواه

فظل من حيث ليس يدري ** يأمر بالعشق من نهاه

وقال أيضًا:
يا من لبست عليه أثواب الضنا ** صفرًا مشهَّرة بحمر الأدمع

أدرك بقية مهجة لو لم تدوم ** شوقًا إليك نفيتها عن أضلعي

وقال أيضًا:
أنت شغلي في كل حال فنومي ** بخيال ويقظتي بادِّكار

طال ليلي بطول هجرك لا دا ** م وشوقي إلى الليالي القصار

وقال أيضًا:
براني الهوى بري المدى فأذابني ** صدودك حتى صرت أنحل من أمس

ولست أرى حتى أراك وإنما ** يبين هباء الذر في أفق الشمس

وقال أيضًا:
وغزال فاق الغزالة حسنًا ** فاتر الطرف ذي جفون مراض

قال إذ رمته أنالك سخطًا ** ليته قالها بصفحة راض

وقال أيضًا:
لئن تعوضت عن وصلي بمطرف ** فلا تظنن أني غير معتاض

إني بعزة نفس أنت تعرفها ** لسابق سلوة السالي بإعراض

وقال أيضًا:
قد كنت أعتد حينًا ** لقياك أنفس ربح

فقد بدت عن سلو ** سماء عقلي تصحي

مالي أهيم بحسن ** يكون علة قبح

وقال أيضًا:
لو كان يحسن غصن البان مشيتها ** تأودًا لمشاها غير محتشم

في صدرها كوكبا نور أقلهما ** ركنان لم يدنوا من كف مستلم

صانتهما في حرير من غلائلها ** فنحن في الحل والركنان في الحرم

وقال أيضًا:
عانقتها وظلام الليل منسدل ** ثم انتبهت ببرد الحلي في الغلس

فبت أحميه خوفًا أن ينبهها ** وأتقي أن أذيب العقد بالنفس

وقال أيضًا:
لا تظني تجنبي لملال ** أنت من خوف سلوتي في أمان

رب هجر يكون أدعى إلى الوصل ** ووصل أدعى إلى الهجران

وقال أيضًا:
وكان عذار عندها عذر وصلها ** فشاب فصار العذر في صدها عندي

فاعجب بأمر أمسى داعية الهوى ** يحول فيضحي اليوم داعية الصد

وقال لغزًا في السحاب:
وهاجم ليس له من عدوى ** مستبدل بكل مثوى مثوى

بكاؤه وضحكه في معنى ** إذا بكى أضحك أهل الدنيا

وقال أيضًا: لغزًا في الميزان:
ما واحد مختلف الأهواء ** يعدل في الأرض وفي السماء

يحكم بالقسط بلا رياء ** أعمى يرى الرشاد كل رائي

أخرس لا من علة وداء ** يغني عن التصريح بالأيماء

يجيب إن ناداه ذو امتراء ** بالرفع والخفض عن النداء

وقال أيضًا: لغزًا في الدرع:
وبيضاء لا للبيض والسمر قدها ** تظاهر في تقويمها الحر والبرد

تجلت لنا حبًا ولم تجر في رحا ** ولكن تولاه لها الدق والبرد

وقيت بها نفسي فكانت كأنها ** هي الشمس محبوبًا بها الكوكب الفرد

وقال أيضًا: لغزًا في الإبرة:
وكاسبة رزقًا سواها يحوزه ** وليس لها حمد عليه ولا أجر

مفرقة للشمل والجمع دأبها ** وخادمة للناس تخدمها عشر

إذا خطرت جرت فضول ذيولها ** سجية ذي كبر وليس بها كبر

ترى الناس طرًا يلبسون الذي نضت ** تعمهم جودًا وليس لها وفر

لها البيت بعد العز غير مدافع ** إلى بأسه تعزى المهندة البتر

أضر بها مثلي نحول بجسمها ** وإن لم يرعها مثل ما راعني هجر

وقال أيضًا: لغزًا في الظل:
وشيء من الأجسام غير مجسم ** له حركات تارة وسكون

يتم أواني كونه وفساده ** وفي وقت محياه المحاق يكون

إذا بانت الأنوار بأن لناظر ** وأما إذا بانت فليس يبين

وقال أيضًا: مما يكتب على حصير:
أفرشت خدي للضيوف ولم يزل ** خلقي التواضع للبيب الأكيس

فتواضعي أعلا مكاني بينهم ** طورًا فصرت أحل صدر المجلس

وقال أيضًا: في معناه:
رب وصل شهدته فتمتعت ** عناقًا بالعاشقين جميعا

وجداني للود أهلًا وللسر ** مكانًا وللصديق مطيعا

وقال أيضًا: في مدخنة البخور:
إذا الهجر أضرم نار الهوى ** فقلبي يضرم للهجر نار

أبوح بأسراري المضمرات ** تبدو سرارًا وتبدو جهارا

إذا ما طوى خبري صاحب ** أبي طيب عرفي إلا انتشارا

وقال أيضًا فيها:
كل نار للشوق تضرم بالهجر ** وناري تشب عند الوصال

فإذا الصد راعني سكن الوجد ** ولم يخطر الغرام ببالي

وقال أيضًا فيها:
يشكون المحبون الجوى ** عند التفرق والزيال

وأشد ما أصلى بنا ** والشوق أوقات الوصال

وقال أيضًا فيها:
رب حمىً لا ترام عزته ** أبحته النفس غير محجوب

يبدي عياني لمن تأملني ** نار محب ونشر محبوب

وقال أيضًا في مغسل الشرب:
إذا ما خطبت الود بين معاشر ** فكن لهم مثلي تعد أخا صدق

إذا استأثروا من كل كاس بصفوها ** رضيت بما أبقوه من مشرب رنق

وقال أيضًا:
لا تدع ربك أن يعذب عاشقًا ** لقبيح صورتها بغير وصالها

وقال أيضًا:
أكثرت حسو البيض ** كيما يستديم قيام أيرك

ما لا يقوم ببيضتيك ** فلا يقوم ببيض غيرك

وقال أيضًا يهجو إنسانًا بالعين:
مدور العين فاتخذه ** لتل غرس وثل عرش

لو رمقت عينه الثريا ** أخرجها في بنات نعش

وقال أيضًا:
يا دار لا تنكري مني التفات فتى ** فراق أحبابه أجرى مدامعه

عهدت فيك قميرًا كان يؤنسني ** حينًا فعيناي تستقري مطالعه

وقال أيضًا:
خليل نأى عني فبدلت بعده ** مقيم الجوى من صفو عيش وطيبه

أغار عليه صرف دهر فغاله ** وعما قليل سوف يلحقني به

وقال أيضًا:
لا تعجبوا من حنين قلبي ** إليهم واعذروا غرامي

فالقوس مع كونها جمادًا ** تئن من فرقة السهام

وقال أيضًا:
كيف أُلذ العيش في بلدة ** سكان قلبي غير سكانها

لو أنها الجنة قد أزلفت ** أرْضَها إلا برضوانها

وقال أيضًا يرثي:
كم ذا الوقوف على غرور أماني ** أأخذت من دنياك عقد أمان

هل عيشة بعد الرضى مرضية ** كلا ولو كانت خلود جنان

إن السماء لفقده لحزينة ** فرياحها نفس الكئيب العاني

والغيث أدمعه وما برقت به ** نار الجوى والرَعد للأرنان

لو ذاق فقدك من يلوم على البكا ** لزرى على التبسيم والسلوان

تبعوك إذا صلوا عليك ولم تزل ** كالنجم تهديهم بكل مكان

كنت المقدم في الصفوف لجولة ** الاقران أو لتلاوة القرآن

لا تبعدن وما البعيد بمن نأى ** حيًّا ولكن البعيد الداني

وقال أيضًا: يرثي الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور دبيس الأسدي لما قتل:
لِيَبْك ابنَ منصور عُفاة نواله ** إذا عصفت بالريح نكباء حرجف

ويذكرَهم من ردهم بعبوسه ** فتى كان يلقاهم ببشر ويسعف

ولما سما فوق السماء بهمة ** يغض لها طرف الحسود ويطرف

رمته الليالي بل رمتنا برزئه ** كبدر الدجى في ليلة التم يخسف

عليك سلام لا تزال قلوبنا ** على حزن ما هبت الريح توقف

ولا برحت عين السماء بوبلها ** على جدث واراك تهمي وتذرف

وقال يهنئ بخلعة:
لئن شرفت مناسبها وجلت ** لقد زفت إلى كفء شريف

إلى من زانها وأزان منها ** كسالفة المليحة والشنوف

وكتب إليه الرئيس أبو القاسم علي بن أفلح الكاتب وقد نقه من مرض كان به:
أنا جوعان فانقذ ** ني من هذي المجاعه

فرجي في الكسرة ال ** خبز ولو كانت قطاعه

لا تقل لي ساعة تصب ** ـر ما لي صبر ساعه

فخواي اليوم ما يقب ** ـل في الخبز شفاعة

فكتب إليه أمين الدولة بن التلميذ الجواب:
هكذا أضياف مثلي ** يتشكَّون المجاعه

غير إني ليس عندي ** لمضر من شفاعه

فتعلل بسويق ** فهو خير من قطاعه

بحياتي قل كما تر ** سمه سمعًا وطاعه

وأهدى إلى الوزير ابن صدقه كتاب المحاضرات للراغب وكتب معه:
لما تعذر أن أكون ملازمًا ** لجناب مولانا الوزير الصاحب

ورغبت في ذكري بحضرة مجده ** أذكرته بمحاضرات الراغب

وكان أبو القاسم بن الفضل قد عتب على أمين الدولة بن التلميذ عتبًا مريبًا، فأجابه أمين الدولة بأن خلع عليه قميصًا مصمتًا أسود وكتب إليه:
أحبك في السواء تسحب ذيلها ** خطيبًا ولكن لا بذكر مثالبي

وقال أيضا:
أتاني كتاب لم يزدني بصيرة ** بسؤدد مهديه إليّ وفضله

فقلت وقد أخجلتني بابتدائه ** أبى الفضل إلا أن يكون لأهله

وكتب إلى الوزير سعد الملك نصير الدين في صدر كتاب:
لا زال جدك بالإقبال موصولًا ** وجد ضدك بالإذلال مغلولا

ولا عدمت من الرحمن موهبة ** تعيد ربعك بالعافين مأهولا

فنعم منطلق الكفين أنت إذا ** أضحى اللئيم عن المعروف مغلولا

تجود بالمال لا تسأل يداه وأن ** تسأل فصاحته بذ الورى قيلا

لا يستريح إلى العلات معتذرا ** إذا الضنين رأى للبخل تأويلا

يبادر الجود سبقًا للسؤال يرى ** تعجيله بعد بذل الوجه تأجيلا

لا غرو أن كسف شمس الضحى وبدت ** فأكثر الناس تبجيلًا وتهليلا

فأنت سيفٌ غياث الدين أغمده ** صونا، وعاد الأعداء مسلولا

فلا خلا الدست من غيث إذا قنطوا ** ظل نداه لدى الرواد مبذولا

فما يليق بغير السعد مسنده ** وإن أعاروه إعظامًا وتبجيلا

فأسلم على الدهر في نعماء صافية ** من النوائب مرهوبًا ومأمولا

وكتب في صدر كتاب إلى جمال الرؤساء أبي الفتح هبة اللّه بن الفضل بن صاعد جوابًا:
ما نشر أنفاس الرياض مريضة ** عوادها طل الندى وقطار

بدميثة ميثاء حلّى وجهها ** وحبا عليها حنْوه وعرار

كفلت بثروتها مؤبدة بها ** وكفى صداها جدول مدرار

بكت السماء فأضحكتها مثل ما ** أبكي فتضحك بي الغداة نوار

وإذا تعارضها ذكاء تشعشعت ** فتمازج النوار والنوار

مشت الصبا بفروعها مختالة ** فصبا المشوق وغيره استعبار

وإذا تغنى الطير في أرجائها ** أبدي بلابل صدره التذكار

يومًا بأطيب من جوارك شاهدًا ** أو غائبًا تدنو بك الأخبار

وكتب إليه جمال الملك أبو القاسم علي بن أفلح في أثناء كتاب:
إني وحقك منذ ارتحلت ** نهاري حنين وليلي أنين

وما كنت أعرف قبلي امرءًا ** بجسم يقيم وقلب يبين

يقول الخلي إذا ما رأى ** ولوعي بذكراك لا تستكين

تسل فقل دهاك الفراق ** أتدري جوى البين أنى يكون

وكيف السبيل إلى سلوتي ** وحزني وفيّ وصبري خؤون

فكتب أمين الدولة في جوابه:
وإني وحبك مذ بنت عنك ** قلبي حزين ودمعي هتون

وأخلف ظني صبر مُعين ** وشاهد شكواي دمع مَعين

فلله أيامنا الخاليات ** لو رد سالف دهر حنين

وإني لأرعى عهود الصفاء ** ويكلؤها لك ود مصون

واحفظ ودك عن قادح ** وود الأكارم علق ثمين

ولم لا يكون ونحن اليدا ** ن أنت بفضلك منها اليمين

إذا قلت أسلوك قالوا الغرا ** م هيهات ذلك ما لا يكون

وهل لي في سلوة مطمع ** وصبري خؤون وودي أمين

وكتب في صدر كتاب إلى العزيز أبي نصر بن محمد بن حامد مستوفي الممالك:
لعمر أبيك الخير ليس لواحد ** من الناس إلا حامد لابن حامد

كأنهم دانوا الإله بشكرهم ** علاه ولكن لا كشكر ابن ساعد

هم خيروا عنه فاثنوا بصالح ** وعندي بما أثنيت خير المشاهد

وكتب إلى ابن أفلح:
أسأت بنفسي حين أزمعت رحلة ** فهمي مجموع بشملي المفرق

فإن امرءًا سرُّ الموفق قربه ** وفارقه طوعًا لغير موفق

وكتب إلى موفق الدين أبي طاهر الحسن بن محمد لما اجتاز بساوة ودخل إلى دار كتبها التي وقفها المذكور المكتوب إليه:
وفقت للخير إذ عممت به ** طلابه يا موفق الدين

أزلفت للناس جنة جمعت ** عيون فضل أشهى من العين

فيها ثمار العقول دانية ** قطوفها حلوة الأفانين

لا زلت تسمو بكل صالح ** بمسعدي قدرة وتمكين

ويرحم اللّه كل مستمع ** شيع دعوتي بتأمين

ولأمين الدولة بن التلميذ من الكتب أقراباذنيه العشرين باباً، وشهرته وتداول الناس له أكثر من سائر كتبه، أقراباذينه الموجز البيمارستاني، وهو ثلاثة عشر باباً، المقالة الأميلية في الأدوية البيمارستانية، اختيار كتاب الحاوي للرازي، اختيار كتاب مسكويه في الأشربة، اختصار شرح جالينوس لكتاب الفصول لأبقراط، اختصار شرح جالينوس لكتاب تقدمة المعرفة لأبقراط، تتمة جوامع الاسكندرانيين لكتاب حيلة البرء لجالينوس، شرح مسائل حنين بن إسحاق على جهة التعليق، شرح أحاديث نبوية تشتمل على طب، كناش، مختصر الحواشي على كتاب القانون للرئيس ابن سينا، الحواشي على كتاب المائة للمسيحي، التعاليق على كتاب المنهاج، وقيل أنها لعلي بن هبة اللّه بن أثردي البغدادي، مقالة في الفصد، كتاب يشتمل على توقيعات ومراسلات، تعاليق استخرجها من كتاب المائة للمسيحي، مختار من كتاب أيدال الأدوية لجالينوس.